فصل: قال السايس:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ}: أي مع المستهزئين ما داموا كذلك.
{حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} أي غير حديث الكفر والاستهزاء بها، والذي أنزله اللّه عليهم في الكتاب هو قوله: {وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68].
وقد كان جماعة بمكة من الداخلين في الإسلام يقعدون مع المشركين واليهود، حال سخريتهم بالقرآن، واستهزائهم به، فنهوا عن ذلك.
قال ابن عباس: دخل في هذه الآية كل محدث ومبتدع في الدين إلى يوم القيامة.
وكذا قال الشوكاني في فتح القدير: إن في هذه الآية- باعتبار عموم لفظها، الذي هو المعتبر، دون خصوص السبب- دليلا على اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله، بما يفيد النقص والاستهزاء للأدلة الشرعية، كما يقع كثيرا من أسراء التقليد، الذين استبدلوا آراء الرجال بالكتاب والسنة، ولم يبق في أيديهم سوى: قال إمام مذهبنا كذا! وقال فلان من أتباعه بكذا! وإذا سمعوا من يستدل على تلك المسألة بآية قرآنية، أو بحديث نبوي، سخروا منه، ولم يرفعوا إلى ما قاله رأسا، ولا بالوا به أي مبالاة، وظنوا أنه قد جاء بأمر فظيع، وخطب شنيع، وخالف مذهب إمامهم الذي نزلوه منزلة معلم الشرائع! بل بالغوا في ذلك، حتى جعلوا رأيه الفائل واجتهاده الذي هو عن منهج الحق مائل، مقدّما على اللّه تعالى، وعلى كتابه وعلى رسوله، فإنّا للّه وإنا إليه راجعون، مما صنعت هذه المذاهب بأهلها، والذين انتسب هؤلاء المقلدة إليهم براء من فعلهم فإنهم قد صرحوا في مؤلفاتهم، بالنهي عن تقليدهم كما أوضحنا ذلك في رسالتنا المسماة بالقول المفيد في حكم التقليد، وفي مؤلفنا المسمى بأدب الطلب ومنتهى الأرب، اللهم انفعنا بما علمتنا، واجعلنا من المتقيدين بالكتاب والسنة، وباعد بيننا وبين آراء الرجال المبنية على شفا جرف هار، يا مجيب السائلين. انتهى.
{إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} تعليل للنهي، أي إنكم إذا فعلتم ذلك، ولم تنتهوا، فأنتم مثلهم في الكفر، واستتباع العذاب، وقيل: هذه المماثلة ليست في جميع الصفات، ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر كما في قول القائل:
وكل قرين بالمقارن يقتدي

وهذه الآية محكمة عند جميع أهل العلم، إلا ما يروى عن الكلبي فإنه قال: هي منسوخة بقوله تعالى: {وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}، وهو مردود، فإن من التقوى اجتناب مجالس هؤلاء الذين يكفرون بآيات اللّه، ويستهزؤون بها، وفي الأنعام نحوها.
قال أهل العلم: وهذا يدل على أن الرضى بالكفر كفر، وكذا من رضي بمنكر، أو خالط أهله، كان في الإثم بمنزلتهم إذا رضي به، وإن لم يباشره ولو جلس خوفا وتقية، مع كمال سخطه لذلك، كان الأمر أهون من الأول.

.الآية السادسة والثلاثون:

{الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)}.
{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)} هذا في يوم القيامة، إذا كان المراد بالسبيل النصر والغلب، أو في الدنيا إن كان المراد به الحجة.
قال ابن عطية: قال جميع أهل التأويل: إن المراد بذلك يوم القيامة.
قال ابن العربي: وهذا ضعيف لعدم فائدة الخبر فيه، وسببه توهم من توهم أن آخر الكلام يرجع إلى أوله، يعني قوله: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ} وذلك يسقط فائدته، أو يكون تكرار هذا معنى كلامه.
وقيل: المعنى أن اللّه لا يجعل للكافرين سبيلا على المؤمنين، يمحو به دولتهم بالكلية، ويذهب آثرهم، ويستبيح بيضتهم، كما يفيده الحديث الثابت في الصحيح.
وقيل: إنه سبحانه لا يجعل للكافرين سبيلا على المؤمنين، ما داموا عاملين بالحق، غير راضين بالباطل، ولا تاركين للنهي عن المنكر، كما قال تعالى: {وما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] قال ابن العربي: وهذا نفيس جدا.
وقيل: لا يجعل اللّه تعالى لهم عليهم سبيلا شرعا، فإن وجد فبخلاف الشرع، فإن شريعة الإسلام ظاهرة إلى يوم القيامة. هذا خلاصة ما قاله أهل العلم في هذه الآية.
وهي صالحة للاحتجاج بها على كثير من المسائل، كعدم إرث الكافر من المسلم، وعدم تملكه مال المسلم إذا استولى عليه، وعدم قتل المسلم بالذمي.

.الآية السابعة والثلاثون:

{لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)}.
{لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ}: نفي الحب كناية عن البغض.
قرأ الجمهور: {إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} على البناء للمجهول، وقرأ زيد بن أسلم وابن أبي إسحاق والضحاك وابن عباس وابن جبير وعطاء بن السائب على البناء للمعلوم. وهو على القراءة الأولى استثناء متصل بتقدير مضاف محذوف، أي إلا جهر من ظلم.
وقيل: إنه على القراءة الأولى أيضا منقطع: أي لكن من ظلم فله أن يقول ظلمني فلان مثلا.
واختلف أهل العلم في كيفية الجهر بالسوء الذي يجوز لمن ظلم، فقيل: هو أن يدعو على من ظلمه، وقيل: لا بأس أن يجهر بالسوء من القول على من ظلمه، بأن يقول: فلان ظلمني، أو هو ظالم، أو نحو ذلك. وقيل معناه إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول من كفر أو نحوه فهو مباح.
والآية على هذا في الإكراه، وكذا قال قطرب، قال: ويجوز أن يكون على البدل، كأنه قال: لا يحب اللّه إلا من ظلم: أي لا يحب الظالم، بل يحب المظلوم.
والظاهر من الآية: أنه يجوز لمن ظلم أن يتكلم بالكلام الذي هو من السوء في جانب من ظلمه، ويؤيده الحديث الثابت في الصحيح بلفظ: «ليّ الواجد ظلم، يحل عرضه وعقوبته».
وأما على القراءة الثانية، فالاستثناء منقطع، أي إلا من ظلم في فعل أو قول فاجهروا له بالسوء من القول، في معنى النهي عن فعله، والتوبيخ له.
وقال قوم: معنى الكلام لا يحب اللّه أن يجهر أحد بالسوء من القول، لكن من ظلم فإنه يجهر بالسوء ظلما وعدوانا وهو ظالم في ذلك، وهذا شأن كثير من الظلمة فإنهم- مع ظلمهم- يستطيلون بألسنتهم على من ظلموه، وينالون من عرضه.
وقال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى، إلا من ظلم فقال سوءا فإنه ينبغي أن يأخذوا على يديه.

.الآية الثامنة والثلاثون:

{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)}.
{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ}: قد تقدم الكلام في الكلالة.
{إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ}: أي أن يهلك امرؤ هلك، كما تقدم في قوله: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ} [النساء: 128].
{لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ}: إما صفة لامرئ أو حال، ولا وجه للمنع من كونه حالا، والولد يطلق على الذكر والأنثى، واقتصر على عدم الولد هنا، مع أن عدم الوالد أيضا معتبر في الكلالة، اتكالا على ظهور ذلك؟
قيل: والمراد هنا بالولد الابن، وهو أحد معنيي المشترك لأن البنت لا تسقط الأخت.
{وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ} عطف على قوله: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ}، والمراد بالأخت هنا هي الأخت لأبوين أو لأب لا لأم، فإن فرضها السدس، كما ذكر سابقا.
وقد ذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، إلى أن الأخوات لأبوين أو أب عصبة للبنات، وإن لم يكن معهن أخ.
وذهب ابن عباس إلى أن الأخوات لا يعصبن البنات، وإليه ذهب داود الظاهري وطائفة، وقالوا: إنه لا ميراث للأخت لأبوين، أو لأب مع البنت، واحتجوا بظاهر هذه الآية فإنه جعل عدم الولد المتناول للذكر والأنثى، قيدا في ميراث الأخت وهذا الاستدلال صحيح، لو لم يرد في السنة ما يدل على ثبوت ميراث الأخت مع البنت، وهو ما ثبت في الصحيح أن معاذا قضى على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في بنت وأخت، فجعل للبنت النصف، وللأخت النصف.
وثبت في الصحيح أيضا أن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قضى في بنت، وبنت ابن، وأخت، فجعل للبنت النصف، ولبنت الابن السدس، وللأخت الباقي.
فكانت هذه السنة مقتضية لتفسير الولد بالابن دون البنت.
{وَهُوَ} أي الأخ {يَرِثُها} أي الأخت {إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ} ذكر، وإن كان المراد بإرثه لها حيازته لجميع تركتها، وإن كان المراد ثبوت ميراثه لها في الجملة- أعم من أن يكون كلا أو بعضا- صح تفسير الولد بما يتناول الذكر والأنثى.
واقتصر سبحانه على نفي الولد فقط مع كون الأب يسقط الأخ أيضا، لأن المراد بيان سقوط الأخ مع الولد فقط هنا، وأما سقوطه مع الابن فقد تبين بالسنة، كما ثبت في الصحيح من قوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فالأولى رجل ذكر» والأب أولى من الأخ.
{فَإِنْ كانَتَا} أي فإن كان من يرث بالأخوة {اثْنَتَيْنِ} والعطف على الشرطية السابقة، والتأنيث والتثنية، وكذلك الجمع في قوله: {وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً} باعتبار الخبر، {فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ} الأخ إن لم يكن له ولد كما سلف، وما فوق الاثنتين من الأخوات يكون لهن الثلثان بالأولى مع أن نزول الآية كان في جابر- وقد مات رضي اللّه عنه عن أخوات سبع أو تسع.
{وَإِنْ كانُوا}: أي من يرث بالأخوة {إِخْوَةً} أي وأخوات، فغلب الذكور، أو فيه اكتفاء بدليل قوله: {رِجالًا وَنِساءً} أي مختلطين ذكورا وإناثا {فَلِلذَّكَرِ}: منهم، {حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}: تعصيبا.
وقد وضحنا الكلام- خلافا واستدلال وترجيحا- في شأن الكلالة، في أول هذه السورة، فلا نعيد. اهـ.

.قال السايس:

من سورة النساء:
قال اللّه تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيرًا وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)}
قوله جلّ شأنه: {وَبَثَّ مِنْهُما} معناه: نشر، وفرّق منهما على سبيل التناسل والتوالد. وقوله: {تَسائَلُونَ بِهِ} معناه: يسأل بعضكم بعضا به، مثل: أسألك باللّه، وأنشدك اللّه، والمفاعلة على ظاهرها، أو بمعنى تسألون كثيرا. الرقيب: الحفيظ المطلع العالم.
يأمر اللّه المكلّفين جميعا بامتثال ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، مما يتعلّق بحقوقه، وحقوق عباده، ويتناول ذلك بعمومه ما سيذكر في السورة بعد من صلة الأرحام، ورعاية حال الأيتام والعدل في النكاح والميراث، إلى غير ذلك.
ولقد أكّد اللّه الأمر بالتقوى بما يحمل المخاطبين على الامتثال، فذكر اسمه بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين، ووصف نفسه بأنه خالقهم، وأنّ مبدأ خلقهم نفس واحدة، وأنه خلق منها زوجها، ونشر من الزوجين رجالا كثيرا ونساء، كلّ ذلك بما يؤيد الأمر، ويؤكّد إيجاب الامتثال، فإنّ الاستعمال جار على أن الوصف الذي علّق به الحكم علة موجبة له، وداعية إليه، ولا شك أنّ ما ذكر يدلّ على القدرة القاهرة، والنعمة الجسيمة، والمنة العظيمة، والقدرة توجب التقوى حذرا من العقاب، والنعمة تدعو إليها طلبا للمزيد، ووفاء بالشكر الواجب.
وفي الامتنان بخلقنا من نفس واحدة ما يوجب الحرص على امتثال الأوامر الآتية، فإنه جلّ شأنه ذكر عقيب الأمر بالتقوى الأمر بالإحسان إلى اليتامى والنساء والضعفاء، وكون الناس بأسرهم مخلوقين من نفس واحدة له أثر في هذا المعنى بليغ، ذلك لأنّ الأقارب لابد أن يكون بينهم نوع مواصلة ومخالطة توجب مزيد المحبة، ألا ترى أن الإنسان يفرح بمدح أقاربه وأسلافه، ويحزن بذمهم والطعن فيهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «إنما فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما آذاها، وينصبني ما أنصبها».